رواية مارغريت الجزء الأول
...فتاة جميلة في مقتبل العمر تملك من جمال الوجه وإشراقته وأناقه الجسم ورشاقته
ما يجعلها أجمل جميلات مدينة باريس حيث يراها جنس الذكر يذوب عشقا لجسدها الممشوق الساحر
ووجهها المضيئ كالقمر
كانت مارغريت فتاة فقيرة الحال لا تملك شيئا من مستلزمات الحياة الكمالية والضرورية على حد سواء
إلّا ما يسُدُ رمق جوعها
...عاشت مارغريت وحيدة لا تستند لعائلة تنفق عليها
دفعها الفقر والحرمان وقساوة العيش أن تعرض نفسها على الرجال للزواج بها دون مقابل،
فكل ماترغب به أن تعيش تحت كنف زوج يتحمل مسؤوليتها بما آتاه الله من قوامة
وتحملها هي أيضا المسؤولية بما يتوجب عليها من مراعاة واجبات الزوج
لكن لسوء حظها لا أحد من كل الذين قابلتهم وافقوا على الزواج بها
ولكل أحد منهم سبب يمنعه من الزواج بها أو حتى بغيرها
ضاقت بها الدنيا واستسلمت لوساوس الشيطانية والنفس الأمارة بالسوء
فقررت بيع شرفها مقابل المال وكان لها ذلك بالطبع،
فأغلب رجال المدينة كانوا يتلهفون ويركضون لقضاء ليلة مع الحسناوات
ليتمتعوا بجمالهن وكانت مارغريت من بينهن بل وأجملهن حتى كانت من أغلاهن سعرا
دخلت مارغريت هذه التجارة الخاسرة لكنها تجارة تجني منها أموالا وثروات طائلة ومجوهرات ثمينة
أصبحت مارغريت من النساء المومسات والأكثرهن شهرة في المدينة
وكانت تجني من تجارتها هذه الكثير من المجوهرات النفيسة والأموال الكبيرة
وفي نفس الوقت لم تكن ترغب بهذا العمل وتحقد على الرجال جميعا
وأقسمت أن تنتقم منهم كلهم دون استثناء قائلة:
" عندما طلبت منهم الزواج باسم الفضيلة رفضوا، وعندما طلبته منهم باسم الرذيلة أذعنوا"
وأصبحت تعامل الرجال الذين يشتغلون معها معاملة الكلب لسيده وتستغلهم أبشع استغلال
وأصبحت سيدة باريس وأغناهم وأكثرهم ثروة لكن كل المال والخير والذهب والفضة والقصر الفخم
الذي تملكته من هذه المهنة الخسيسة لا يساوي دمعة واحدة لحظة بيعها لشرفها
لقد كان جمالها رأس مالها وسخطها إذ ذهب الرجال من حولها
لطالما كانت أمنيتها أن تعيش في كنف أسرة شريفة مستقرة ودائما ما يتردد داخل عقلها ويشغل تفكيرها
أن حب الرجال لها شهوة لجمالها وإن حرمت هذا الجمال إنقطعت عنها أسباب رزقها
وأصبحت وحيدة منقطعة لا أحد يحنو عليها ولا عين تبكي عليها
وهي تبكي حالها وشقائها أكثر من الأشقياء نفسهم،
لأنها تعاشر من لا تحب ويعاشرها من لا يحبونها إلا كذبا وزيفا ولهفة نحو الشهوة اللحظية
كانت نظرة المجتمع لها أنها إمرأة طامعة ما رأى الناس رجلا داخلا إلى قصرها،
إلّا وظنوا أنها ترغب فيه عشيقا خالصا لها...
ولو اطّلعوا بسريرة نفسها لعلموا أنها فاسدة لكن غير راضية عن فسادها وساقطة وغير وغير راضية عن سقوطها
لا ولكنها تنكر ولا تحب أن ترى فتاة تعمل مثلها
حتى أنها قد وهبت أكثر من مرة بعض الفتيات مهورا وأموالا لتعينهم على الزواج والعفّة
لم يمضِ على مارغريت بضعة أعوام على حياتها هذه حتى أصابها المرض الخبيث
واشتدّ سقمها فأشار عليها الأطباء بالذهاب إلى الحمامات الطبيعية للاستشفاء
هناك في إحدى القرى المجاورة فسافرت مع خادمتها وهناك في الطريق إلتقت مع شخص
قد فقد ابنته للتو وفارقت الحياة بسبب مرض أصابها،
كان هذا الشخص رجل كبير في السن ثري إسمه الدوق موهان
عندما رأى مارغريت شبهها بابنته التي فقدها قبل أيام،
بل حتى أن خياله أخذه إلى أن هذه ابنته ماثلة أمامه
أمسك الدوق موهان بطرف ثوب مارغريت وطلب منها أن يقبّل يدها
استغربت مارغريت من هذا وأعطته يدها وقبّلها وأنشأ يقص عليها قصة فقدانه ابنته
والألم الموحش الذي خلفه فراقها عنه
حزنت مارغريت لمصاب الرجل وبكت لحاله ثم واصلا المسير معا
حتى وصلت إلى نزلها واستأذنته، فطلب منها أن يختلف إليها ويزورها من حين إلى آخر
فأذنت له بذلك.
عندما إختلت مارغريت في غرفتها خُيّل إليها أنها مصابة بنفس المرض الذي أصيبت به تلك الفتاة،
،ابنه السيد الدوق موهان التي خطفها الموت من بين يدي أبيها
فلا تجد مارغريت من يبكي لحالها كهذا الأب العطوف
فأنشات تبكي ولازمت غرفتها وظل الدوق موهان يزورها كل يوم ويأنس بقربها ومجالستها
والحديث إليها والبوح بكل تفاصيل حياته
فبادلته مارغريت مشاعر العطف والحنان وقصّت عليه قصّة حياتها فحزن لحالها وقرر مساعدتها
بعد أيام شفيت مارغريت من مرضها فأزمعت على العودة إلى باريس وهذا ما أحزن السيد الدوق موهان
ثم اتفق معها ليلة السفر أن يهيئ لها منزلا ويقوم بنفقاتها ويزورها من وقت لآخر على أن تهجر حياتها الأولى
( حياة المومسات الساقطات) ففرحت لذلك واستبشرت بإنهاء حياة الذل والفساد
ثم في اليوم الثاني سافرا معا إلى باريس ومن وقتها تغيرت حياة مارغريت
فأصبحت تعيش في القصر الذي هيأه لها الدوق موهان واعتزلت الناس
إلا قليلا من معارفها وصويحباتها المقربات وخادمتها الوفية
واستغرب منها الرجال الذين كانت تعاشرهم هذا التغيير المفاجئ الذي طرأ عليها
فكلما نزلت الشارع أو المنتزه تتمشى بين أرجاء المدينة، تلتقي برجال تعرفهم
وقد سبق وعاشرتهم فمرةً تنظر إليهم نظرة إنكارها معرفتهم
وتارة أخرى ترمي بابتسامة خافتة جدا لا يكاد يستبين أثرها إلّا للشخص الذي ألقتها له
وعفّت نفسها وأصبحت تعاف الرجال وندمت على ماضيها
وعتبت على فقرها الذي ألقى بها في براثن الرذيلة فهي الآن لا تنعم بالمال الذي باعت نفسها من أجله
بل من مال الدوق الذي اعتبرها مثل ابنته وأنس بها بفقدان إبنته
ما لبثت بضعة أشهر على إستقرار وتحسن حالتها الصحية حتى عاد إليها المرض من جديد
فكانت تحاول مغالبته وتناسيه وتلهي نفسها عنه بالذهاب إلى المسرح وحضور المسرحيات
وهناك ذات ليلة لاحظت أحد الحاضرين في المسرح ينظر إليها نظرات غريبة عجزت عن تفسيرها
فهو ليس من الرجال الذين سبق وأن عاشرتهم لكن نظراته لها غريبة
حيث كان يطيل النظر إليها وعندما تضع عينيها بعينه يلفت وجهه إلى الجهة الأخرى خجلا وحياءًا من نظرته لها
لم يخطر ببال مارغريت أن تلك النظرات قد تكون نظرات إعجاب وحب من الوهلة الأولى
الشاب أرمان تبدو عليه علامات النبل والشرف والأخلاق الراقية
وما شدّ انتباهها له بكاءه وتأثره في إحدى العروض المسرحية....
ولحظات قبل انتهاء العرض المسرحي إشتدّ السعال على مارغريت حتى كادت أن تسقط من كرسيها
وهي تحاول أن تخطو خطوات حثيثة للوصول إلى عربتها حتى شعرت بيد تمسك بيدها
وتساعدها في الصعود المركبة ولشدّة السعال لم تعرف من الفاعل الذي ساعدها
فاستدارت لتشكره على صنيعه حتى ولىّ أرمان مدبرا، وسريعا ما اختفى بين المارة
فلم تلمح منه شيئا من ملامح وجهه إلّا القليل ما تخيلته في ذهنها
لازمت مارغريت غرفتها بعد نوبة المرض الذي إشتدّت عليها
فأصبح بعض الفتيان والأصدقاء يزورونها ويتركون بطاقاتهم لخادمتها برودنس حتى تعطيها لماغريت
لكن مارغريت لم تقرأ واحدة من هذه البطاقات فأخبرتها الخادمة أن هناك شاب دائما يأتي ليسأل عنها
كل يوم مرة أو مرتين ويعلو على وجهه علامات الأسى كلما أخبرته أنك لا تزالين طريحة الفراش
فهو لا يذكر إسمه ولا يترك بطاقة فوصفته لها ولم تعرفه
فأوصت مارغريت خادمتها برودنس أن تخبرها عند قدومه لزيارتها
وفي صباح الغد كانت مارغريت جالسة في شرفتها فرأت ذلك الفتى الحزين فعرفته
وعرفت أنه هو من مدّ لها يده لمساعدتها في ركوب العربة فطلبت من الخادمة أن تستدعيه للصعود إلى غرفتها
فاضطرب الشاب أرمان وخجل من تلبية الدعوة لكن لم يرَ بُّد من أن يرفض طلبها
فصعد إليها واستقبلها بوجه أحمر يرفضُّ عرقا فمد يدها له وقبّلها قبلة حارّة
فأحسّت مارغريت أن هذه القبلة تحمل في طياتها عاطفة سرية وهي عالمة بأسرار القبلات
جلس الفتى أرمان وتبادلا أطراف الحديث وكانت هذه الجلسة الأولى جلسة تعارف بين مارغريت وأرمان
وأخبرها أنه قدم من نيس منذ 20 يوما فسألته عن حاله ومقامه هنا هل هو مرتاح أم غير ذلك!؟
فأطرق برأسه وسكت ولم يجب وأعادت عليه مارغريت السؤال مرة ثانية،
فقال لها: هل تسمحين لي بمصارحتك يا سيدتي
قالت مارغريت: نعم صارحني بكل شيء..
إلّا أن تصارحني حبك وغرامك فأنا إمرأة مريضة لا طاقة لي بالحب وعذابه
فخجل أرمان واصفر وجهه وترقرقت بعينه دمعة فمسحها وأنشأ يحدثها قائلا:
ذلك ما يحزنني يا سيدتي منذ نزلت هنا بباريس ورأيتك إلى اليوم وقلبي يخفق
وقد سألت عنك فعلمت بحالك وأشفقت عليك وهذا ما يؤلمني كثيرا
واختلط حبي لك بإشفاق على حالك ومرضك وأصبحت أقلق لمرضك أكثر من حبي لك
فأصبح كل همّي أن أراك تنعمين بوافر الصحة والعافية ولا طمع لي في شيء آخر إلّا أن أراك بخير
وطلب منها أن تأذن له بزيارتها وسؤال الخادمة عنها حتى دون أن يراها أو تشعر به
وهنا نزلت بقلب مارغريت رعدة بنغمة حب فلقد أُعجبت بشعوره لحظة رأته يبكي في إحدى التمثيلات المسرحية
وأذنت له بذلك وشكرت له صنيعه وتجشمه على بالمجيء إليها
بعد مغادرة أرمان أحسّت مارغريت بإحساس الحب ولم يسبق لها أن شعرت به من قبل
فقالت رحمتك يا الله إني أخشى أن أحبه وقد أحبته من حيث لا تدري
أصبح أرمان يزور مارغريت كل يوم وقد أنِست كثيرا بصحبته وقصّت عليه قصتها كلها
ولم تُخْفِ عنه شيئا تطورت العلاقة بينهما وأصبح حبهما لبعضهم البعض يرفرف بأجنحته على قلبهما
وخاصة أن أرمان قد أحب مارغريت لذاتها رغم سقمها وذبولها أحبها من جهة وأشفق على حالها من جهة أخرى
وقد غاب أرمان ثلاثة أيام ولم يزر فيها مارغريت
وفي اليوم الرابع أقبل عليها كالطفل المشتاق لحضن أمه وقد إشتدّ المرض بمارغريت
فوجدها ملقاة على سريرها وتعلو ملامح وجهها التعب والإرهاق والبكاء بادي عن عينيها الذابلتين
فذُعر أرمان عندما رآها بهذه الحالة وقالت له:
إقترب يا أرمان أخبرك بحقيقة ثم لا أراك بعدها ولا تراني
سقط أرمان تحت قدميها وظل ينظر إلى وجهها ويستعطفها بنظراته التي يشُع منها صدق العشق وألم الفراق معا
أنشأت تفصح له عمّا يجول بخاطرها وما يؤلم قلبها
مارغريت: عندما غبت عني يا أرمان ثلاثة أيام التي خلت أدركت فيها يقينا أنني أحببتك لكني أخاف الحب يا أرمان
أرمان: وما يخيفك منه!؟
قالت: أخاف أن يعذبني الله به على ما اقترفت من ذنوبي في سابق عهدي
فنحن النساء الساقطات لا نزال نعبث بعقول الرجال ونعذبهم حتى ينتقم الله منّا إن أحببنا بصدق
ويحرمنا لذّة السعادة في الحب الصادق
وكما ترى يا أرمان لقد كنت إمرأة غير شريفة وفوق هذا المرض يقاسمني ما تبقى من حياتي
وإن كنا تقاسمنا الحب وتعاهدنا عليه فأنا لا أراك خائنا عندما ينقضي أجل بقائك هنا في باريس
.فلا شك أن تعود لأهلك وهذا واجبك نحوهم
وإني أعلم أنك تحبني حبًّا جما وحبك لي ليس كباقي الرجال
لقد أحببتني لذاتي وأشفقت علي وعلى حالي ورغم هذا تضحي بحياتك معي
أجزم أن أهلك سيخاصمونك وينكروا عليك ارتباطك بإمرأة مومس مثلي
كما أني أخشى العودة إلى ذلك الشيخ الكريم فيعاقبني على نقض العهد الذي وعدته إيّاه
وهو لا يعلم حبي لك وحبك لي صادقا ولربما عدت لحياتي الأولى
ظل أرمان صامتا لا ينبس ببنت شفا وقد اصفر وجهه وذبلت عيناه ألمًا وحزنا
،وحمل نفسه بخطى متثاقلة نحو الباب وهو يقول الوداع يا مارغريت
تبعته مارغريت بخطى وئيدة حتى إذا غاب عن عينيها
وبعد لحظات سمعت صوتا غريبا بالحديقة خرجت تركض بثقل إتجاه الصوت
وإذ به أرمان ساقطا على الأرض مغشيا عليه فرفعت نظرها إلى السماء وقالت ليكن ما أراد الله
ثم ألقت بنفسها في حضنه وقبلته وضمته إلى صدرها
فاستفاق أرمان وضمّها إليه وقبّلها ولو كان هذا آخر عهد له في الحياة،
لرضي منها بتلك القبلة والضمّة التي اعادت الروح الى جسمه وقلبه
عودة الأمل...
انقضى الشتاء وبرأت مارغريت من مرضها وظل أرمان مقيما في باريس بالحجة التي أقامها لأهله
بأنه ما زال بحاجة إلى العزلة ليستريح من ضغوطاته النفسية
قررت مارغريت وأرمان السفر إلى بوجيفال والإستقرار هناك
فعاشا معًا لمدة سنة كاملة لكن المال الذي كان بحوزة أرمان بدأ ينفذ
والشيخ الدوق قد قطع النفقة عن مارغريت عندما علم باتصالها بأرمان
ولم يعرف حقيقة التفاصيل لكن مارغريت أظهرت وفرتها للمال وقالت لأرمان:
عندي من المال والمجوهرات ما يكفينا للعيش معًا سنين طويلة
لكن أرمان رفض العيش معها بنفقتها فمروءته وشرفه لا تسمح له بالعيش من مالها
بل هو أحق أن ينفق عليها فعزم بالسفر إلى نيس ليتزود بالمال
لكن مارغريت ظلّت تترجاه أن يبقى معها على حساب نفقتها الخاصة
وتُلح وتتودد إليه بكل ما يحمل القلب له من عشق
فأضمر أرمان في نفسه أن يتنازل عن ورث أمه لها وفاءًا وحبًّا وإخلاصا لها
.... إلى متى ستظل مارغريت تنفق من مالها،
وفي ذات الوقت كان أرمان يرسل إلى أبيه حتى يزوده ببعض المال
بحجة أنه لا يزال يرغب في البقاء بباريس وظل يتردد إلى الفندق الذي نزل به قبل أن يتعرف على مارغريت
حتى ينظر إن قدم له كتاب من أبيه أو لا
أمّا مارغريت فباعت مجوهراتها وضلّت تنفق جزءا منه لتسديد ديونها وجزء آخر لمعيشتها وأرمان
والحال كذلك وبعد مرور بضعة أشهر جاء أبو أرمان وعرف بقصته وعلاقته مع مارغريت
فعتب عليه عتبا شديدا وهو لا يعلم مدى حب أرمان لمارغريت
(نكر عليه الأب عيشته مع إمرأة مومس، (نفاية الرجال
قال دوفان لابنه أرمان: لقد كذبت علي يا بني ولم يسبق لك أن خدعتني أو كتمت عني حقيقتك
،وها أنا اليوم أرى ابني وحيدي الذي يعتبر مثالا للشرف والحياء وعنوان الجمال والبهاء
يعيش في كنف إمرأة عاهرة لا شرف لها ولا حياء حسبُك هذا فلم أعد أطيق النطق بكلمة أخرى
فقم معي الساعة بجمع أغراضك والعودة إلى نيس حيث أصلك وشرفك، عائلتك وأهلك في انتظارك
نظر أرمان إلى أبيه نظرة الترجي والإستعطاف قائلا: لا أستطيع يا أبتي، إغفر لي هذا
ردّ عليه السيد دوفان: وتلك خطيئة أخرى أعظم من سابقتها وحسرتها
،ها أنا اليوم أرى فلذة كبدي يعصي أمري من أجل إمرأة ساقطة لا عهد لها ولا أمان
سوى أن تعبث بك مثل ما تفعل مع بني جنسك ثم ترمي بك كالكلاب
بعد أن تسلبك مالك وتدمر حياتك ومستقبلك وتشوه سمعة عائلتك
من بعد جريمتك هذه التي ترتكبها في حقنا جميعا كعائلة شريفة
أرمان: لا يا أبتي مارغريت ليست كذلك لقد جار عليها الزمان
إنها تحبني يا أبي حبًّا صادقا عميقا كما أني أبادلها الحب أضعاف ما تحبني
فرحمتك بنا يا أبي فهي مريضة وإن تركتها فقد خنت عهدي بها ولا أحسبها إلا ميتة مفارقة الحياة من بعدي
وتلك جريمة ارتكبها باسم الحب والوفاء والعهد وأدفع ثمنها ندمًا وحسرًا طيلة حياتي
أرجو أن تلتمس لي العذر يا أبي فأنا لست بعاقٍّ لك وإنما قلبي يقول الحقيقة:
دوفان: انتبه جيدا يا بني ما أقول لك هؤلاء النساء الساقطات ماهرات في إغواء الرجال
والعبث بعقولهن وأسر قلوبهن حتى لا تعرف التمييز صدقها من خبثها
أرمان: لا لا لا يا أبتي أنت تتهمها في حاضرها أما ماضيها فأتفق معك في هذا
لكنها الآن إمرأة شريفة مخلصة في هذا وأنا متيقن ممّا أقول
فالحب يشعر به قبل أن يلمسه العاشق في ثنايا معشوقه
وإن تركتها الآن وهي على هذا الحال بعد عهدي لها في البقاء بجانبها
حتى يقضي الله أمره فينا وإني أخشى إن تركتها قد تعود إلى عهدها السابق دون وعي منها
فلنرحمها يا أبتي فهي وحيدة لا أهل لها ولا قريب فلا أريد أن أفارقها يا أبتي بدموع الندم والحسرة
التي أكاد أجزم لك أن الندم سيقطع شريان قلبي ويلزمني طول حياتي إن أنا غدرت بها
فالخيانة في الحب والصداقة من أبشع الصفات التي لا يحتملها الجاني عند ندمه فماذا عن المجني عليه
أطرق دوفان رأسه رحمةً وإشفاقًا على ابنه ثم أنشأ يقول يا أرمان إستلهم الله الرشد والبيان
وأرجو أن تشفق على أبٍ مثلي شيخ كبير يعاني فراق إبنه الوحيد كما أنّ أختك قد إشتاقت إليك كثيرا
أرمان أعرف جيدا كل حرف تنطق به فأنا لا أقصد أن أقاطعك
.حسبي منكم بعض الوقت إلى أن تشفى مارغريت من سقمها
دوفان: يا بني أحييك على شهامتك ونخوتك لكن عندما تكون مع إمرأة تزيد لشرف عائلتنا شرفًا أكبر
لسلالة آل تاليراند أمّا هذه الفتاة فإنها تلطخ إسم العائلة بأكمله
سأدعك هذه الساعة تفكر في قرارة نفسك وبأعماق عقلك لا بقلبك الذي سلبته هذه الساقطة،
في شأن ما قلت لك وفي شأن مستقبلك قبل كل شيء
فالأب يعرف مصلحة إبنه جيدا فأنا لا أريد أن أحرمك متعة العشق والحب
لكن عندما يكون حبًّا عذريا طاهرا عفيفا مع إمرأة شريفة
ذهب الأب لزيارة بعض معارفه وأصدقائه وقضاء بعض شؤونه
على أمل العودة إلى إبنه الذي يعرفه، إلى الإبن الذي ربّاه وأنشأه على العفاف والطهر والشجاعة
ولمّا عاد دوفان إلى إبنه وجده متمسكا برأيه أكثر ممّا تركه عليه
أرمان: لا أقاسمك يا أبي ما يختلج في فؤادي ويعتصر جوانبه عصرا
والدموع الساخنة تنزل على خديه منهمرة
والله يا أبي لو أستطيع العيش بدونها لفعلت برا بك ولكن ما حاجتك بأرمان
إن عاد معك جثّة هامدة وجسما بلا روح ورأسا بلا عقل
أليس من الرأي الراجح أن تبقيني معها إلى أجل قريب حتى أطمئن على حالها
دوفان: قم الآن إلى شانك وسنلتقي غدا لنكمل بقية الحديث
عاد أرمان إلى بوجيفال كئيبا حزينا حائرا خائرة القوى لا يعلم إلى أي حال سيكون مصيره
هل يعصي رأي أبيه فداءً لحبه وإخلاصا بوعده الذي قطعه لمارغريت
على أن لا يتركها ولن يتخلى عنها أبد الدهر، فكيف وهي مريضة فتلك الطامة الكبرى
ومن جهة أخرى هل يخون عهده بمارغريت ويطيب خاطر والده الذي أفنى عمره ليرعاه ويحنو عليه
وكان له نعم الأب العطوف الحنون ولم يشعره يوما بفقدان أمه وتيتمه في صغر سنه
.فكان له الأب والأم في آن واحد
دخل أرمان على مارغريت، وذُعرت عندما رأته وهي حاملة بيدها رسالة
ما إن رأت أرمان حتى أخفتها سريعا لكن أرمان إنتبه لها وعرف أنها رسالة من رسائل المركيز جان فيليب
يبدو أنه ما زال على حبّه لها
لكن أرمان لم يكترث بالأمر وتغافل عنه لأنه يعلم أن مارغريت تحبه وتخلص له
وما هذه الرسائل إلّا كتابات مزعجة من عشاقها السابقين لا شأن لها فيهم،
فلا تستطيع أن تمنعهم من مراسلتهم كما أنها أحيانا لا تعرف المرسل قبل فتح الرسالة
إذا لم يضع اسمه على الظرف وهل هي من إحدى صديقاتها أو معارفها القدامى أو من عشاقها الإستغلاليين
إتّجه أرمان نحو مارغريت وأخذها في حضنه وعانقها عناقا طويلا
وقبّلها قبلات حارة، فاحتارت مارغريت هل هي قبلات الوداع أم أن أبوه قد سمح له بالبقاء
فعاد إليها مسرورا مغتبطا
مارغريت: ماذا جرى يا أرمان
أرمان: لا أرى أني طفل صغير حتى يحتاج لتوجيه أبيه
اصفر وجه مارغريت وبدأت تشعر بالغثيان
أرمان: ما بكِ يا حبيبة قلبي
مارغريت: أشعر بالدوار
أمسك أرمان بيد مارغريت وأضجعها على السرير وناولها قطرات من الدواء
...ونامت ليلتها وما هي بنائمة
الغدر والخيانة
في صباح الغد جلست مارغريت وأرمان لتفضي له بما رأته أنسب له ولها
مارغريت: لا أكتمك سرا يا أرمان فأنا أرى أن تعود لأبيك
وتستعطف رحمته لك وعطفه عليك وأقبل برأيه
فأنا لا أحتمل أن أخطف قلب الإبن الوحيد لأبيه
وأن أسعد أنا على حساب شقاء أب شيخ صاحب القلب العطوف على إبنه
عُد إلى أبيك يا أرمان وتأكد أني راضية كل الرضا
استسلم أرمان لأمرها وبداخله أمل أن يسمح له أبوه بالبقاء معها
ومشى إليها مكسور الخاطر وضمّها إليه ضمّة شديدة وكأنه يخشى أن يكون هذا عناق الوداع
وقبّلها وقال لها إلى المساء يا مارغريت
إلتقى أرمان بأبيه وهو يمنّي النفس ببشارة القبول وعلامات الرضا التي ستعلوا مُحيّاه
فتقدم أرمان يقبل يد أبيه وأخذ الأب يقبل رأس ابنه وهنا دبّت الغبطة
وقال أرمان في نفسه "إنها بوادر القبول"
دوفان: لقد فكرت طويلا فما رأيت إلا أنك شاب يافع في ريعان شبابه
ونحن معشر الرجال المتقدمين في العمر لا نفكر مثل ما تفكرون، فأنتم لكم شأنكم الخاص
نعم قد نكون على صواب في نصائحنا لكن في نفس الوقت لا ننكر أننا قد نخطئ في حقكم
ونسلبكم حق الحياة التي رأيتموها لأنفسكم حياة السعادة والهناء ونحن نراها حياة شقاء وبؤس
فلا نعرف أيُّنا أصح فلك يا بني كامل الحرية في اختيار حياتك الخاصة بكامل تفاصيلها
أطلق عنان جناحيك كي تحلق في الفضاء الذي تأنس به وأنا راض عنك تمام الرضا يا بني
على أمل الوصال ولا أخفي عليك إن أمنت واطمئنت على حياتك مع هذه المرأة وأنا أعرف سريرتها،
فلا آمن عليك من شر غيرها
إستطير أرمان فرحا وأخذ يعانق أباه ويقبله تقبيلا حارا ووعده بالمجيء إليه كل فترة
ومكث مع أبيه اليوم كله يأنس به ولا يضني عليه هذه الساعات
حتى حلّ الليل وعاد إلى بوجيفال ليقاسم مارغريت فرحته وخياله ويرسم سعادة مستقبلهما
وصل أرمان إلى المنزل لكنه رأى سكونا عجيبا لم يلحظه من قبل،
الأنوار مطفية و البيت لا حركة فيه ولا سكون
دخل البيت ولم يجد مارغريت على سريرها ولا الخادمة برودسن
.فجلس ينتظرها ربما ذهبت هي وخادمتها للمشي في المنتزه أو إحدى الحدائق والغابات
طال انتظاره... هل يعقل أن تكون قد ذهبت إلى باريس فخشي أن يلحق بها إلى باريس
وقد يختلف معها في غير الطريق الذي ذهبت منه فلا يلتقيها لا هنا ولا هناك
بزغ الفجر ويئس أرمان من الإنتظار فحمل نفسه ومشى في طريقه إلى باريس لعله يجدها في بيتها هناك
عند وصوله إلى منزل مارغريت في باريس سأل حارس الحديقة عن مارغريت إذا جاءت هنا بالأمس أو لا..!
الحارس: نعم لقد وصلت هنا بالأمس هي وخادمتها بحقيبة كبيرة
وبعد ساعات نزلت وهي ترتدي فستان الولائم الرسمية
وقد أوصتني إن قدم الميسيو أرمان أن أعطيك هذا الكتاب
أرمان: ألا تعلم أين ذهبت وإلى أي شأن؟
الحارس: لقد سمعتها تقول لسائق العربة، إلى منزل المركيز جان فيليب
وهنا دارت الدنيا برأس أرمان ولم يشعر فيها بشيء من حوله
ثم تناول الكتاب ويداه ترتجفان وفتحه ولمح بكل ما فيه من كلمات
ووقعت بداخله كالسهم أدمت قلبه وجمد في مكانه لا يحرك ساكنا
واعتلته صفرة شديدة ومباشرة تذكر ذاك الكتاب الذي أخفته عنه سريعا
عندما دخل عليها الغرفة عند عودته من لقاء أبيه ذاك اليوم
وبالفعل لقد كان كتاب جان فيليب يحدد فيه موعد اللقاء
وارتعدت أعضاء جسمه واضطربت لهول ما يمر به من لحظات لا يعرف تفسيرا لها
وكان في آخر جملة الكتاب تقول هذا آخر ما بيني وبينك يا أرمان
فلا تحدث نفسك بمعاودة الإتصال بي ولا تسألني عن السبب في ذلك
فلا سبب عندي إلّا أني هكذا أردت لنفسي... والسلام
وبعد لحظات إشتدّ حاله وضاق صدره وارتفعت عبرة كادت أن تخنقه ثم سقط صريعا مغشيا عليه
هرع إليه الحارس وتحسس نبضه حتى أحسّ بداخله أنفاس خافتة
ثم أسرع له بكأس الماء يسقيه منه وينضح به على وجهه حتى استفاق أرمان
وتذكر المشهد ذاته قبل أكثر من سنة عندما سقط في هذه الحديقة
وأقبلت عليه مارغريت تقبّله وتضمه إلى صدرها
ثم قال وهو يذرف دمعات ساخنة مؤلمة على خدّيه: ما أشبه اليوم بالأمس
ثم حمل نفسه بما تبقى له من قوة يجاهد بجسده للوصول إلى العربة لتعود به إلى الفندق عند أبيه
وعند منعطف الشارع رأى عربة فخمه تحمل رجلا وإمرأة لم يبصرهما جيدا
ولحظة انعطاف العربة في آخر الشارع راجع صورتهما وإذ هي مارغريت مع عشيقها السابق جان فيليب
وصل أرمان الفندق وهو خائر القوى وسقط على الأرض هائما على وجهه
أقبل عليه الأب دوفان قائلا: ما بك يا بني لقد أفزعني ما أنت عليه من حال!؟
أرمان: لقد خانتني يا أبي
دوفان: ذاك ما كنت أخشاه عليك يا بني،
فتحمّل مسؤولية وفائك وظنك الحسن وثقتك العمياء بها وحبك الساذج لها
أرمان: يكفي يا أبي..يكفي..
فلم أعد أحتمل شيئا وبدأ أرمان يفكر ويحلّل بأقوال مارغريت وحججها
وإصرارها له في العودة مع أبيه وكيف أنها لا ترضى إلّا بما يرضاه أبوه
.وكل هذا لأنها قد شعرت بالخطر عند نفاد المال مني
ولم تعد بحاجة إلى عشيق فارغ اليد من المال
وارتأت فرصة استدعاء المركيز جان فيليب من خلال الكتاب الذي أخفته عني
لقد كنت ساذجا مغفلا، كان علي أن أسأل عن الكتاب أحسن من أن أوقع نفسي في هذا الموقف الساذج
وفي صباح الغد طلب من أبيه مبلغا من المال وسأله دوفان ماذا تريد أن تفعل ب 15 ألف فرنك
أرمان حاجة في نفسي وسأرجعه لك يا أبتي عند عودتنا الى نيس
أعطاه الأب المبلغ وأرسله أرمان إلى مارغريت وكتب عليه:
هذا المبلغ نظير تلك الليالي التي قضيتها معك وفي صباح اليوم التالي عاد إليه الظرف كما هو
فأزمع على معاودة إرساله فمسكه أبوه دوفان قائلا:
يا بني لقد وعدتني أن لا تخلف لي كلمة فكُفّ عن هذا
وهيا بنا الأن نعود إلى بيتنا فأختك تنتظرنا واشتاقت إليك كثيرا
!ألم تشتق لها أنت أيضا
أرمان: بلى يا أبي أرجوك سامحني يا أبتي لم أسمع كلامك منذ البداية
فالحسرة والندم تقطع أحشائي وقلبي يعتصر ألما.
دوفان: هوّن عليك يا بني إنها الحياة تعلمنا من تجاربها الحلوة والمرة والشقاء لا يدوم
إصبر واحتسب وسيمحى الألم من الذاكرة
وكذلك قضى الله أن يفترقا ذلك العاشقين
فعاد أرمان إلى حضن أبيه وأسرته
وعادت مارغريت إلى حياتها الأولى وكان شأنها أن تعيش حياتين في جسد واحد وقلب واحد
ظاهريا تجالس الناس وتبادلهم الضحكات والنكات وتعاشر الرجل الذي تنفر من معاشرته
وتقبّل الأفواه التي لا تشتهيها وترقص وتضطرب لكن بداخلها عواصف تصهر مشاعرها
التي تبديها للآخرين عند خلوتها بنفسها
يعتصر قلبها حزنا عميقا وتتذكر تلك الأيام والليالي التي خلت
عندما كانت تؤنسها تلك اللحظات الجميلة التي عقدتها مع عشيق قلبها
الذي لم يعرف له الحب طريقا سواه
ثم تعود إلى هذا الحاضر الشقي الذي رمته الأقدار في براثنها
حتى تخنقها العبرة ألما وحسرة ثم تأخذ صورة أرمان وتعانقها وتقبلها ويهدأ خاطرها ويبرد قلبها قليلا
تمر الأيام والأسابيع والمرض ينهش ما بقي من جمالها
حتى ملّها جان فيليب واستبدلها بفتاة أخرى أكثر شبابا وحيوية ونضارة وإشراقا
وزادت حاجتها إلى المال ونفر منها الأخلاء والأحباب والأصدقاء
فعمدت إلى بيع ما بقي عندها من المجوهرات
ولم تفِ بسداد ديونها ثم أرسلت تطلب المعونة من أصدقائها
فأرسل إليها القليل منهم القليل من المال وكثر عليها طلَاب الديون
واحتجزوا كل ما تملك من أثاث ولامها الكثير منهم وهذا ما زادها غمًّا وحزنا
فأصبح كل همّها، صباح مساء أن ترى أرمان ساعة من الزمن وتفضي له بالسر الدفين
قبل أن تفارق الحياة فقررت أن تكتب له ولم تكن قد كتبت له منذ فارقته ولم يصلها كتاب منه إلى الآن
حتى يتبين وضعها ويعلم بحالها
مارغريت: هل يعقل أن عرف بعودتي إلى حياتي الأولى وترجم هذا إلى خيانة وغدر..!؟
لا لا يا إلهي.. كيف أعالج هذه القضية التي وقعت فيها دون ذنب مني
.لابد أن أكتب لملاقاة أرمان فورا.
...يتبع.........................................................................................................